شيء في الدنيا جميل مثل أمسية خالية من الهموم تنفرد فيها بنفسك وليس معك أو لديك من البشر سواه.. جسر التنهدات ومخزن الآلام.. حليم. في الخيط الرفيع الفاصل ما بين اليقظة والمنام وأثناء تلك اللحظات التائهة بين الحقيقة والوهم يعيش بعضنا في ظروف مختلفة ولأسباب متعددة حالات صفاء نادرة تفتح له أثناءها الأبواب المغلقة وترفع الحجب وتنقشع غمامات الجهل.. تنطلق الروح من محبسها الأرضي فيصبح السمع غير السمع والبصر غير البصر.. تطوي المسافات ويلغي الزمن فتتلاشي الموانع والحواجز وتعود بك الدنيا أعمارا وقرونا وأنت في مجلسك لتجري الأحداث الموغلة في القدم من جديد أمام عينيك وكأنها شريط سينمائي.. في لحظة مجرد لحظة من تلك اللحظات النادرة اجتمعت منذ بضع سنين مع حليم لساعات بعمر ما نعرف ونقيس طوال.. صاحبني فيها وصاحبته واختصني فيها بفيض من الحكايات.. أفقت بعدها دون أن أدري هل كان ما عشته حلما أم حقيقة.. واقعا أم سراب؟ وها أنا مازلت في ظلمات الحيرة.. بلا جواب.
كتب موفق بيومي في أخبار النجوم اليوم مستلق أنا علي ظهري فوق تروللي المستشفي محدقا في سقف الممر الضيق الذي يغلب عليه مثل كل شيء اللون الأبيض.. تملؤني رائحة مبهمة تسيطر علي المكان.. لم تكن رائحة المستشفيات قدر ما كانت رائحة الخوف من مجهود آت.. يظهر الجراح الكبير.. يداعبني بشكل وظيفي وهو يصحبني الأمتال القليلة التي تفصلنا عن غرفة العمليات مؤكدا أن جراحات القلب لم تعد تخيف.. طاقم اجراء العملية يحيط بي.. لم أدر من أين جاءتني الحقنة.. بدأت الرحلة بصفير حاد كاد أن يلغي لدي حاسة السمع ثم أخذ يخفت بشكل تدريجي قبل أن تلفني برودة كالثلج.. في سرعة مذهلة أخذت اخترق سردابا طويلا.. تستقبلني موسيقي ليست كموسيقي البشر وألوان ليست كألوانهم.. أخرج بشكل لا أدريه من جسدي الذي أصبحت أراه بين أيدي الأطباء.. ينفتح الصدر وينشق.. يظهر القلب العليل.. أشعر أن لدي جناحين غير مرئيين أطير بهما وأجوب الدنيا في غمضة عين.. سرعتي تزداد بمجرد أن أفكر في ذلك.. هل هو الموت؟
هكذا سألت نفسي غير وجل.. أفرح لأنني سأري أبي وأمي وشيخنا السوداني الجليل وثومة وحليم.. ما إن خطروا الي ذهني حتي رأيتهم جميعا أمامي.. ألقيت ما كنت أظنه جسدي في أحضانهم.. طيف يعانق طيفا وهواء يلتحم بهواء.. بكل منهم انفردت وله استمعت ولكل مقام مقال ولكل وقت حديث واليوم في ذكراه استعيد بعض ما قاله ذلك الرجل الذي تزعم الأوراق وتؤكد الشهادات انه رحل ومات ولكن الذين يرون بحق لهم في ذلك.. رأي آخر.
البدايات
ما بين قرية الحلوات والزقازيق وزقاق حمام بابا بالسيدة زينب والمنيل.. تجول معي حليم وطاف.. عاد معي الى عام 1929 بقريته التي كانت صغيرة بل متناهية الصغر تضم بضعة دروب وأزقة يمتليء كل منها بعشرات البيوت الصغيرة المتواضعة والمتلاصقة.. عدد من هذه البيوت كان يخص عائلة شبانة المنحدرة في الأصل من شبه الجزيرة العربية.. يشير حليم بيده الرقيقة الدقيقة الي واحد من هذه البيوت في أمسية غير سعيدة.. أمه تعاني من آلام الوضع منذ ثلاثة أيام.. نساء الأسرة والجارات يحطن بها يملأهن شعور مبهم بالخوف عليها وينتابهن ما يقارب اليقين أن حياتها في خطر بسبب هذا المولود "النحس" كما أطلقن عليه قبل وصوله للدنيا! الأم تسمع بنفسها أمنيات ودعوات المحيطات بها أن يموت الطفل وتنجو هي!.. أخيرا ولدتني أمي بعد معاناة لم تعتدها نساء القرية ولاحتي سمعن عنها من قبل.. جئت ضعيفا واهيا لا أكف عن "العويل" الذي تشاءمن منه ورأين في نذير شؤم.. لم أذق طعم النوم ولم يذقن طعمه معي طوال يومين في نهايتهما.. ماتت أمي.
الصراخ يملأ الغرفة المتواضعة حزنا على أمي من ناحية وغضبا مني لأنني في نظرهن كنت السبب من ناحية أخرى.. واحدة من الحاضرات بلغت بها الكراهية أن تقترح اخماد أنفاسي بمخدة.. واحدة أخرى حنقها مني أشد أصرت علي أن ترضعني من ثدي الأم الميتة حتي ألحق كما يعتقدون بها.. حملتني بالفعل وكادت أن تنفذ ما نوت لولا أن أخي اسماعيل ابن التاسعة سمع الحديث منذ بدايته فأسرع نحو أبي الذي جاء متخبطا في جلبابه غارقا في دموعه حزنا علي زوجته ابنة الثامنة والعشرين فنجاني من بين أيديهن.
تطوف بي شقيقتي وأمي الثانية علية علي نساء العائلة بل ونساء القرية كلها باحثة عن "رضعة" لذلك اليتيم البائس الذي تمر به الأيام والأسابيع حتي جاء "أربعين" أمه ومضي وبدأ الناس في نسيان الحزن.. الحي أبقي من الميت.. خالي يستأذن من أبي في أن يزوج ابنته خوفا من عتابه علي هذا الزواج قبل مرور عام.. يوافق أبي دافنا أحزانه بين ضلوعه.. أضواء "الكلوبات" تغرق السرادق البسيط في بحر من النور لا يعرفه بسطاء القرية سوي في مثل هذه المناسبات.. الزغاريد والرقص والبهجة تنفي عني تهمة النحس التي التصقت بي.. فجأة يرتفع صوت بصراخ حاد مرير يمزق القلوب تلته أصوات عديدة.. فجأة وبلا مقدمات سقط الرجل من طوله ليلقي وجه كريم.. فجأة أيها السادة.. مات أبي.
الهروب
ها هو شقيقي اسماعيل ومعه علية ينقلاني من بيت الي بيت خوفا من نساء العائلة اللاتي صممن علي قتلي خوفا من أن أتسبب في المزيد من الحزن.. يستقر بي المقام في بيت خالتي.. ها أنا أحبو.. أمشي.. انطق كلماتي الأولي المتلعثمة بلا أب يضحك من القلب لمحاولاتي الأولي وبلا أم تضمني في أحضانها وهي تحمد ربها لانني مثل بقية "العيال" بلا عيب أو عاهة وتكمل دعاءها أن يحفظني من العين والحسد.. ربما وجدت بعض الشفقة ولكنني أبدا لم أقابل أو أذق أو أعرف طعم الحنان.. لم أعش في أجواء الحب الحقيقي ذلك الحب وهذا الحنان اللذين قضيت عمري القصير كله بحثا عنهما.
في الخامسة كنت أعيش لدي احدى الجارات.. اسماعيل في المدرسة وعلية في هموم البيت وشئونه ومحمد هنا أو هناك.. استرجع نظرات الناس نحوي.. استشعر بالشفقة أتساءل أين الأب والأم.. يقول رفاقي انهما عند الله.. أريد أن أراهما.. أحن للذهاب إليهما.. نفس الرفاق يقولون أن من يسقط في هوة بئر عميق يموت ومن يموت يذهب الي الله.. أمام منزل الجارة وعلي بعد أمتار قليلة منه بئر عميق يبدو بلا قرار.. قررت أن أري من لم أرهما من قبل.. أقف علي حافة البئر أكاد أن ألقي بنفسي في غياباته لولا أن العناية الإلهية أرسلت في نفس اللحظة شقيقي اسماعيل.. حدق نحوي مبهورا.. ما إن أفاق حتي شدني في جنون وهو ينفجر بالبكاء، في أعقاب تلك الحادثة انتقلت الي بيت خالي في الزقازيق.. كان لم يتزوج بعد بتلك السيدة التي أذاقتني العذاب..
خالي "متولي أحمد عكاشة" كان رجلا طيبا.. لم يكن يصدق ما قيل عني أنني سبب وفاة أخته.. كان هو الوحيد الذي لم يصدق ذلك.. حتي أنا شخصيا الي أن بلغت مرحلة الشباب أصدق ذلك.. تغاضي عن حزني الدفين وانطوائي.. سامحني علي هروبي من "الكتاب" وعدم حبي لذلك المكان المغلق الذي يتلقي الأطفال فيه العقاب بلا سبب.. دخلت المدرسة الابتدائية.. لم أكن متفوقا ولم أكن متعثرا.. بدأت في سماع الموسيقي والأغاني مصادفة ثم بدأت أهيم بهما..
"أدندن" عندما أنفرد بنفسي مقلدا ذلك الرجل الذي كنت أعتبر مجرد النطق باسمه كرامة ورؤية صورته في مجلة معجزة لذلك أصابني نوع من الحذر عندما تأكدت من الأقاويل التي تناثرت في الزقازيق أن عبدالوهاب سيأتي بنفسه الي المدينة مساء اليوم ليغني في قصر الدكتور "برادة".. أيقنت أن جسدي الضئيل لن يساعدني في الحصول علي مكان متقدم قرب أسوار القصر وبواباته لرؤيته من بعيد.. تسلقت شجرة ضخمة ينسدل أحد فروعها داخل الحديقة... ها هو بنفسه أمامي للمرة الأولي صدمني منظره بطربوشه الأحمر الذي يزرعه فوق رأسه ونظارته السميكة التي تحجب عينيه.. تسكت الدنيا ويغني عبدالوهاب "حياتي انت ماليش غيرك وفايتني لمين؟".. أكاد أن أجن.. يأخذني الطرب دون أن أدري بالفرع الضعيف الذي بدأ يهتز من تحتي.. لم أدر بنفسي سوي وأنا في المستشفي الأميري بعد أن جبسوا لي ساقي اليسري التي كسرت بعد أن سقطت علي الأرض!
في العام التالي أعارني صديق دراجته لمدة يوم كامل ولعلكم تدرون متعة أن يمتلك صبي صغير في الثانية عشرة دراجة لمدة يوم كان عام ..1941 قررت أن أصحب بعض الزملاء لحضور مولد "سيدي أبومسلم" علي بعد ثمانية وعشرين كيلو مترا من الزقازيق.. صدمتني سيارة لتكسر نفس الساق من جديد ومع الكسر كان هناك هذه المرة شرخ في العمود الفقري حظ عثر يأبي أن يفارقني وعام كامل قضيته في الجبس والمستشفي للعلاج. لم يكسر هذا الأسر ويزيح قتامته وبؤسه سوي تلك الهدية التي اشترك فيها أشقائي اسماعيل وعلية ومحمد. راديو أسمع فيه حبيبي.. عبدالوهاب.