لماذا بات مصير الحفلات الفنية الفشل المحتم، وكل حفلة ناجحة أصبحت استثناء؟ هل أصبحنا في عصر الكاسيت والفيديو كليب ولم يعد للحفلات المباشرة صداها؟ ولماذا يتكبد الجمهور عناء حضور حفلة غنائية في الوقت الذي أصبح فيه الفنان عملة سهلة تباع مجانا عبر الفضائيات المختصة؟
في الكواليس ينتظر الفنان، تتصاعد دقات قلبه بوتيرة عالية، يشعر بأنه على وشك الانهيار، فالمدرجات شبه الخالية يصل صداها إليه في غرفته المقفلة، يعزف عن الصعود إلى المسرح، يهدد ويتوعد، يحمل إدارة المهرجان مسؤولية عدم الترويج لحفلته، وبعد مشاورات يتم الاتفاق على فتح المدرجات أمام الجمهور مجانا، وفجأة يعود الهدير ليملأ المدرجات، فالجمهور لم يعد ليكلف نفسه عناء دفع ثمن البطاقة، طالما يدرك أن المدرجات ستفتح مجانا بسبب قلة الحضور.
مشهد تكرر في أكثر من مهرجان عربي الصيف الماضي وفي بعض المهرجانات التي أقيمت أخيرا، التي عتم عليها الإعلام خصوصا انها تقام على نطاق ضيق بانتظار فصل المهرجانات الذي سيبدأ الإعلان عن فعالياته في غضون شهرين.
مهرجانات الصيف الماضي كانت فاشلة بكل المقاييس، في جرش كانت الصورة أقسى، إذ أعلنت حالة طوارىء، وصلت أصداؤها إلى مجلس الوزراء الأردني، الذي اجتمع لتحديد الأسباب المحتملة لانحسار اهتمام الجمهور بالمهرجان، ما من شأنه أن يضرب السياحة الأردنية في الصميم، أما في مهرجان قرطاج التونسي، فكان الوضع أقل تشنجا، وإن كان الحضور الجماهيري أقل مما كان عليه في السنوات الماضية ما يطرح أكثر من علامة استفهام.
نجوم كبار يتساقطون!
قبل سنوات، كان يكفي الإعلان عن حفل للفنان هاني شاكر في مهرجان جرش، لتنفذ البطاقات قبل أيام من الحفل، حتى أصبح وجوده في المهرجان ضروريا في كل سنة تقريبا، غير أن ما حصل هذا العام كان مفاجئا بكل المقاييس، فلم يحضر حفل هاني سوى مائتي شخص، في مدرج يتسع لخمسة آلاف، بدا المكان خاليا من الجمهور، وأصيب هاني باكتئاب حاد، ما دفع بإدارة المهرجان إلى فتح الأبواب لتمتلأ الصالة بالجمهور، ولم تكن زميلته لطيفة التي وقفت على المسرح نفسه أكثر حظا، حيث فشلت في استقطاب الجمهور الأردني، وبيع ما يقارب الأربعين بطاقة، صدمة أفقدتها صوابها فكالت الاتهامات لإدارة المهرجان التي ردت عليها بقسوة.
المناوشات حصلت وراء الكواليس، أما في العلن، ففتحت الأبواب للجمهور مجاناً، وكتب على الباب الرئيسي عبارة"الدخول مجاني"، ورغم مجانية العرض لم يحضر أكثر من ألفي شخص.
أما الفنان عاصي الحلاني فكان أكثر حظاً، حيث باع الف بطاقة، لكنها لم تكن كافية لملء المدرجات. وبقي السبب المعلن سوء الإدارة وقلّة الدعاية، إلى أن جاءت الفنانة نجوى كرم لتثبت أن الخلل يكمن في مكان آخر، حيث ملأت المدرجات معيدة الحياة إلى مهرجان جرش.
واستمر الوضع بين صعود وهبوط إلى نهاية الدورة الحالية، التي شهدت سقوط نجوم كبار، وصعود نجوم شباب مثل النجم العراقي ماجد المهندس، الذي نجح في استقطاب أبناء الجالية العراقية الموجودين في الأردن، كذلك فعل مواطنه الفنان الكبير كاظم الساهر، حيث أحيا ليلتين من أنجح ليالي المهرجان، بعد أن ملأ أبناء الجالية العراقية المدرجات، ومن لم يتمكن من الحضور تابع الحفل من الخارج.
خلل واضح
إذاً حفلات ناجحة وأخرى فاشلة، نتيجة قد توصلك حتما، وبعيدا عن كل الأسباب التي سيقت لتبرير فشل بعض الحفلات، إلى استنتاج واحد وهو أن الخلل يكمن في النجوم أنفسهم، وربما في مزاج الجمهور العام بحسب القبس.
فمن المشرق العربي إلى المغرب لم تكن المهرجانات أفضل حالا، حيث أخفق مهرجان قرطاج في حشد الجمهور الذي اعتاد على ملء المدرجات كل عام، باستثناء العام الماضي الذي شهد فشلا ذريعا للمهرجان، بعد أن أصرت إدارته على استكمال فعالياته رغم العدوان الإسرائيلي على لبنان، واعتذار معظم النجوم عن المشاركة فيه بسبب الحرب.
حفلات "روتانا" كانت الأكثر جماهيرية، غير أن بقية الحفلات كانت تتأرجح صعودا وهبوطا في بورصة الجماهيرية التي أصبحت اختبارا قاسيا يخضع له الفنان حيث النتيجة مباشرة. وليس بعيدا من مهرجان قرطاج، فقد منيت مهرجانات تونس بفشل ذريع، إذ تم إلغاء حفل الفنان راغب علامة في مدينة بنزرت بسبب قلة إقبال الجمهور، كما منيت جولة إليسا على المهرجانات التونسية بفشل ذريع ايضا، وبدت عاجزة عن استقطاب الجمهور حتى في مربع ليلي يتسع للمئات فقط.
وبموازاة فشل إليسا وراغب، تم إلغاء فعاليات مهرجان صفاقص وإلغاء معظم حفلات مهرجان بنزرت بسبب قلة بيع البطاقات. وفي مصر تكرر السيناريو ذاته، حيث اضطر أكثر من فنان إلى إلغاء حفله بسبب قلة بيع البطاقات، ومنهم الفنانة هيفاء وهبي التي ألغي حفلها في اللحظات الأخيرة، بعد أن علمت أنها لم تبع سوى بطاقات معدودة في حفل كان من المقرر أن يقام في القاهرة، التي شهدت انتكاسة لأكثر من فنان الصيف الفائت.
فماذا حصل هذا الصيف؟ وهل تغير مزاج العرب بين ليلة وضحاها؟ ولماذا لم تعد الحفلات تشكل عامل جذب إلا في ما ندر؟ الإجابة الأكثر منطقية تبدو في المزاج العام المحبط، حيث لم يعد المتلقي العربي يجد نفسه في الحفلات الصاخبة، بعد أن أصبح محاطا بكل عوامل الإحباط واليأس، خصوصا في منطقة المشرق العربي، التي يعيش شعبها ألما ينعكس إحباطا على الشعوب المجاورة.
وبعيدا عن المزاج العربي، تبدو الفضائيات المتخصصة بعرض الفيديو كليب، بمثابة الرصاصة التي اطلقت على ما تبقى من نجومية كان يعول عليها الفنانون لاستقطاب جماهير الحفلات، إذ أصبحت هذه الفضائيات تتولى نقل الحفلات مباشرة ومجانا إلى المشاهد، فضلا عن تكرار عرض الفيديو كليب الذي جعل الفنان سلعة مستهلكة تغزوها تلك المساحة من الشوق الذي كان يدفع بالجمهور إلى ملاقاة نجمه المفضل.
العدة بدأت لصيف المهرجانات حيث أصبحت البرامج الفنية والفعاليات شبه كاملة، وبات الفنانون مطالبين اليوم بإعادة حساباتهم، فلم يعد يجدي الوقوف على المسرح وتقديم أغان مل المشاهد من سماعها عبر الفضائيات، بل الأجدى الاتجاه إلى عروض على غرار تلك التي يقدمها الفنانون العالميون في حفلاتهم، ودراسة ظهورهم التلفزيوني كي لا تحرقهم الأضواء، والأهم أنهم مطالبون بتقديم ما يحاكي المزاج العربي المثقل بالهموم والجراح وكل عوامل الإحباط.